قاهر المستحيل محطم أسطورة خط بارليف الذي لا يهدم وجيش إسرائيل الذي لا يهزم، هو أحد صناع القرار لنصر السادس من أكتوبر العاشر من رمضان، إنه اللواء أركان حرب مهندس باقي زكي يوسف الذي توصل إلى فكرة عبقرية غيرت مسار العمليات في حرب أكتوبر، ليعبر الجيش المصري قناة السويس المانع المستحيل.. ويحطم خط بارليف في ساعات معدودة، ويفتح بخراطيم المياه 85 ثغرة في الساتر الترابي ليدخل من خلالها أول لواء مدرع إلى أرض سيناء ليتحقق نصر عزيز طال الاشتياق إليه. وإلى تفاصيل الحوار:
- ماذا عن خط بارليف وهل تتذكرون ما قاله موشي ديان وزير الدفاع الإسرائيلي: إنه لو اجتمع سلاح المهندسين الروسي والأمريكي فلن يستطيعا إسقاط رملة واحدة من هذا الخط الحصين، فهل كانت قوة وصناعة خط بارليف متطابقة مع ما كانت تروج له إسرائيل؟ أم إن إسرائيل كانت تبالغ في الدعاية بهدف خفض الروح المعنوية للجيش المصري؟
خط بارليف هو خط الدفاع الأول الرئيسي الذي يحتمي به العدو، ويقع على شاطئ القناة تماما ويمتد من رأس العش في بورسعيد شمالا وحتى نقطة بور توفيق في السويس جنوبا، ويتكون من حوالي 40 نقطة حصينة «دشمة» ويصل بين هذه النقط ساتر ترابي يشكل حائطاً منيعاً على طول امتداد الضفة الشرقية للقناة مباشرة وقد استغل في إنشائه ملايين الأمتار المكعبة من الرمال الطبيعية، ولاستحالة تسلقه وصلت درجة ميله في اتجاه القناة إلى 80 درجة، وارتفاعه ما بين 20 و 12م وعمقه ما بين 12 و 8م وقد وصل عمقه في المواقع وخصوصاً بالقطاع الجنوبي للجبهة إلى 200م وكان يسمح في بعض أجزائه بمرور الدوريات الراكبة، وقد دعمت إسرائيل هذا الخط بإمكانيات عسكرية متنوعة ومتقدمة كحقول الألغام -نقطة قوية- نطاقات من الأسلاك الشائكة لعرقلة أي تقدم لقواتنا علاوة على ذلك وضعت قوات احتياطية من الدبابات والمشاة الميكانيكي على أعماق مختلفة للقيام بالهجمات المضادة بالتعاون مع الطيران والمدفعية، وقد كلفت إسرائيل بإنشائه كبرى الشركات المتخصصة وقد استغرق بناؤه عدة سنوات بكُلفة بلغت مئات الملايين من الدولارات، أي أن كُلفة بنائه فاقت كُلفة بناء السد العالي وأصبح هذا البناء وتلك التحصينات تشكل المانع الأكبر الذي يقف وراء مانع القناة المائي بغرض فصل سيناء والضفة الشرقية للقناة تماما عن مصر ولقتل أي أمل لمصر في استعادة وتحرير أرضها.
فكرة قديمة
- كيف جاءتكم فكرة تدمير الساتر الترابي بخراطيم المياه؟
الفكرة لم تكن جديدة في حد ذاتها، حيث عايشتها وشاهدتها بعيني عندما كنت منتدباً للعمل في السد العالي في الفترة من 1964 حتى يونيو 1967 كانت الدولة في هذا التوقيت تستعين بخبرة رجال القوات المسلحة في الأعمال المدنية ولي الشرف أن أقول إني قد أسهمت في الإعمار والتحرير. وقد تعودت في أثناء عملي اليومي في التشكيل خلال حرب الاستنزاف، وكنت وقتها برتبة مقدم مهمتي أراقب من مواقع وحداتنا الدفاعية على الشاطئ الغربي للقناة كل أعمال التجهيز الهندسي التي يقيمها العدو شرق القناة، وكان يشدني على وجه الخصوص تطور العمل بالساتر الترابي الذي بمرور الوقت أصبح يشكل مانعاً شديد التعقيد، وكنت دائما ما أربط تطور العمل في الساتر الترابي بأعمال التجريف التي تمت في السد العالي بكل تفاصيله، والتي كانت تتم لتجريف الرمال إلى قاع السد، ووجدتني أردد داخلي آه لو كان هذا الساتر الترابي في أسوان لمزقته مدافع مياه التجريف، فلم يكن هذا الساتر الترابي بأكبر من جبال الرمال الطبيعية التي تم نقلها بالكامل من أماكنها إلى قاع السد العالي وهنا كانت البداية.
- وكيف تم عرض هذه الفكرة على قيادات الجيش والقيادة السياسية؟
في أثناء أحد الاجتماعات التي كانت تعقد لدراسة مشاكل العبور، بعد أن صدرت الأوامر بالاستعداد لعبور القناة واقتحام خط بارليف، وكنت أحد ضباط قيادة الفرقة وقام قائد الفرقة حينذاك الراحل اللواء أركان حرب سعد زغلول عبدالكريم بشرح المهمة تلاه رؤساء التخصصات «استطلاع - عمليات - مهندسين- مدفعية» بشرح مفصل لأوضاع العدو وطبيعة الأرض أمام التشكيل بالإضافة إلى تفصيلات شديدة الدقة لطبيعة الساتر الترابي تشمل بداية إنشائه، تكوينه تدرج عمقه وارتفاعه والتجهيزات الهندسية والقتالية به من نقط قوية وتحصينات وحقول ألغام، وأيضاً نتائج التجارب الجاري دراستها وقتها لمختلف البدائل المطروحة لفتح الثغرات، وقد شد انتباهي أثناء الاجتماع وخلال عرض التقارير المفصلة عن الساتر الترابي نقطتان مهمتان هما: تكوينه ونشأته لارتفاعه وعمقه، كما وجدتني استرجع البدائل التي تم اقتراحها لفتح الثغرات بالساتر الترابي، والتي كانت كلها تدور حول استخدام المدافع والصواريخ والوقت الكبير الذي تستلزم تلك البدائل لفتح الثغرات، والتي قد تصل من 15 الى 12 ساعة في أفضل الظروف ناهيك عن الخسائر الرهيبة المتوقعة واحتمال مؤكد لتدخل العدو لإحباط المخطط وإجهاض نجاحه هنا شعرت بأهمية طرح فكرة استخدام المياه في تجريف رمال الساتر الترابي لفتح الثغرات فيه كبديل حيوي تجب دراسته جنباً إلى جنب مع باقي البدائل المطروحة، وخاصة مع كونه أكثر ملاءمة لطبيعة مسرح العمليات.
استأذنت اللواء سعد زغلول قائد التشكيل في طرح الفكرة وشرح طريقة تجريف المياه لفتح الثغرات في الساتر الترابي عن طريق سحب المياه من القناة وضخها في مواجهة الساتر الترابي على الضفة الشرقية للقناة في الأماكن المقررة لفتح الثغرات لتعود الى قوة المياه المضخوخة ذاتيا محملة برمال الساتر الترابي إلى قاع القناة، نفس الأسلوب الذي كان متبعاً في نقل الرمال الى السد العالي.. أصيب الجميع بحالة من الذهول لغرابة الفكرة وحداثتها وأنها لم تطرح من قبل واشترك الرؤساء المتخصصون في مناقشة الفكرة من جميع جوانبها سلباً وإيجاباً وعلى غير ما توقعت رحّب الجميع بالفكرة من حيث المبدأ، واقتنع قائد التشكيل وقام بالاتصال بقائد الجيش الثالث الميداني الذي حدد لي موعداً في اليوم التالي مباشرة لمقابلته ومناقشة الأمر معه وبعدها طلب مني الحضور إلى هيئة عمليات القوات المسلحة المنوطة بدراسة هذه الاقتراحات، وعرضت الفكرة على نائب رئيس الهيئة ثم رئيس الهيئة وقد تلقيت الأوامر بمقابلة مدير سلاح المهندسين لعرض الفكرة عليه وأثناء النقاش استفسر مني عن أسماء ضباط سلاح المهندسين الذين عملوا معي في السد العالي فسردت عليه بعض الأسماء وكان من ضمنهم العقيد شريف مختار والذي كان يخدم وقتها في إدارة المهندسين فاستدعاه وناقش معه الفكرة وأكد جدواها، بعدها طلب مني نائب رئيس هيئة العمليات بالقوات المسلحة إعداد تقرير فني واف لعرضه على الرئيس جمال عبدالناصر.
ولم أضيع الوقت وذهبت في طريق عودتي إلى عملي إلى وزارة السد العالي وطلبت من أحد الزملاء هناك إمدادي بجميع النشرات الإعلامية التي كانت تصدر أثناء مراحل بناء السد العالي مدققاً في اختياري على كل ما يمس التجريف في الصور والمعلومات، وذلك بحجة عرضها على الجنود والضباط وقد أرفقت هذه الصور والمعلومات مع التقرير الذي تم عرضه على الرئيس جمال عبدالناصر وذلك في أثناء اجتماعه الأسبوعي بقادة التشكيلات بمقر القيادة العامة، وما إن تم عرض الفكرة عليه حتى اهتم بها وأمر بإعداد اللازم لتجربتها وإقرارها في حالة نجاحها مع ضرورة وضعها تحت بند سري للغاية.
مراحل التنفيذ
- هل كنت متأكداً من نجاح خطة إزالة الساتر الترابي بخراطيم المياه؟
كنت واثقاً من نجاحها بنسبة مائة في المائة؛ لأنها طريقة غير تقليدية، وقد عايشتها وشاهدتها بعيني أثناء عملي كمهندس بالسد العالي ولذلك لم يكن لدي أي شك في نجاحها.
- من الذي قام بتنفيذ الفكرة على أرض الواقع؟
قام بمرحلة التنفيذ المهندسون العسكريون تحت إشراف اللواء جمال محمد علي مدير سلاح المهندسين حينذاك والذي قام بدور كبير لتوفير المعدات اللازمة لتنفيذ الفكرة، وقد واجهتنا صعوبات عديدة لتوفير تلك المعدات وكان أهم هذه المعوقات امتناع الروس والألمان عن تزويد القوات المسلحة المصرية بأي معدات وبالذات الكباري واللنشات على اعتبار أنها أسلحة هجومية، ولم تكن الصناعة المحلية ممثلة في المصانع الحربية قادرة على إنتاج هذه المعدات بنفس جودة الصناعة الألمانية، ولكن بعزيمة وإرادة الرجال استطاع مهندسو الكباري تصنيعها محلياً مع فارق الجودة حيث إن الكوبري المصري يفرد في 5 ساعات أما الألماني فيفرد في ساعة واحدة، وإمعاناً في التكتم والسرية تم إرسال لجنة من ضباط القوات المسلحة لإحضار معدات تنفيذ الفكرة على أساس أنها «طلمبات» إطفاء حريق وتم استيرادها من شركة دويتس الألمانية وكانت صغيرة الحجم ووزنها لا يتعدى 205 كجم وقوتها 100 حصان، وكانت توضع في القوارب التي ستعبر القناة ويتم تزويدها بالوقود كل 20ق وقد ساعدت قوة تلك «الطلمبات» على سرعة فتح الثغرات في الساتر الترابي في وقت متزامن مع عمل الكباري في وقت العبور فبالتالي لن يحدث أي هجوم مضاد من قبل العدو.
فتح الثغرات
- هل كانت هناك خطط بديلة مقترحة لفتح الثغرات في الساتر الترابي سبقت هذه الطريقة؟
بلا شك كان هناك العديد من الخطط الفنية تمت دراستها وبجدية، وكانت كلها تدور حول استخدام المفرقعات والألغلام وطوربيد البنجالور وقنابل وصواريخ صنعت كلها خصيصاً لهذا الغرض، علاوة على استخدام المدفعية بجميع أعيرتها.
- هل تم عمل تجارب فعلية قبل الحرب لاختيار فاعلية خراطيم المياه في تدمير الساتر الترابي؟ وأين تمت تلك التجارب؟
فعلا تم إجراء العديد من التجارب العملية والميدانية على فكرة تجريف الساتر الترابي بواسطة خراطيم المياه وقد وصل عدد تلك التجارب إلى أكثر من 300 تجربة قامت بها إدارة المهندسين، وتبع تلك التجارب المبدئية تجارب أخرى عديدة تم معظمها باستخدام أنواع مختلفة من طلمبات الديزل والطلمبات التوربينية الأصغر حجماً والأكبر قدرة، وفي يناير 1972 قامت إدارة المهندسين بإجراء بيان عملي في جزيرة البلاح بالقرب من الإسماعيلية داخل القناة على ساتر ترابي مشابه تماماً للساتر الترابي الإسرائيلي شرق القناة، والناتجة من عمليات تطهير القناة وفي هذه التجربة أثبت البيان صلاحية الفكرة وتم على ضوء نتائجه إقرار استخدام تجريف الرمال بالمياه كأسلوب لفتح الثغرات في الساتر الترابي المعروف بخط بارليف شرق القناة.
- ما النتائج التي تحققت على أرض المعركة بعد دخول هذه الفكرة حيز التنفيذ؟
كانت النتائج الفورية التي تحققت في بداية الساعات الأولى للعبور فتح أول الممرات في الساتر الترابي في الساعة السادسة من مساء يوم 6 أكتوبر، وفي العاشرة مساء نفس اليوم تم الانتهاء من فتح 75% من الممرات المخططة بمقدار 60 فتحة على طول مواجهة الساتر الترابي، وكانت تلك الممرات هي البداية لتشغيل كل المعابر وخصوصا بعد انهيار 90 ألف متر مكعب من رمال الساتر الترابي إلى قاع القناة، وليتم بعدها عبور أول لواء مدرع من معبر القرش شمال الإسماعيلية، حيث بلغ ارتفاع الساتر الترابي في هذه المنطقة عشرين مترا وذلك في الساعة الثامنة والنصف من مساء السادس من أكتوبر.
سلاح مفاجئ
- كان سلاح طلمبات المياه مفاجأة حرب أكتوبر كيف تم المحافظة على سرية الفكرة حتى تم تنفيذها؟
حظي الموضوع منذ بداياته بدرجة سري للغاية وأذكر أن قائد التشكيل أمرني بإحراق جميع الأوراق التي كنت أدون بها ملاحظاتي، وكان هذا الموضوع لا يتم تداوله إلا بين مجموعة من الفنيين على درجة عالية من الثقة وأيضاً عند سفر اللجان لشراء المعدات من الخارج كانت تتم تحت مسميات بعيدة تماما عن هذه الفكرة.
- هل ظهرت صعوبات مفاجئة وقت تنفيذ الفكرة على أرض المعركة؟
نعم حدث ذلك في قطاع الجيش الثالث، حيث إن التربة هناك تختلف عن التربة بقطاع الجيش الثاني؛ لوجود بعض العروق الطفلية بالجزء الجنوبي من الساتر الترابي والتي استلزم فتح الثغرات بها وقتا أطول وصل إلى 4 ساعات ولكن كل شيء كان معمول حسابه.
- شغلتم منصب رئيس فرع مركبات الجيش الثالث في حرب أكتوبر 1973 فما دور سلاح المركبات في تلك الحرب؟
كانت أهم الأعمال التي قام بها سلاح المركبات بالجيش الثالث الميداني تأمين المعابر الرئيسية بأرض المعركة مع دفع العناصر الفنية إلى شرق القناة لتأمين محاور الإنزال والإخلاء والنجدة، علاوة على الاحتياطي الكبير من العتاد لدى الجيش الثالث والذي كان يمد به أرض المعركة في أي وقت تحتاج إليه، وأتذكر هنا أنني كنت أعرف اسم كل سائق عربة نجدة على طول مواجهة الجيش الثالث.
أسلحة متقدمة
- ترجع هزيمة الجيوش الألمانية بقيادة هتلر في الحرب العالمية الثانية إلى عدم وجود عقيدة لديه يحارب من أجلها، فهل ينطبق ذلك على الجيش الإسرائيلي في حرب 73؟
بكل تأكيد فالحرب من دون عقيدة أو قضية يحارب من أجلها الجيش لا يمكن أن تحقق النصر، فالعقيدة هي الأقوى والأكثر صمودا أمام الأسلحة المتقدمة، وهذا ينطبق على الجيش المصري الذي حارب بكل طوائفه مسلمين ومسيحيين بعقيدة واحدة إما تحرير الأرض وإما نيل الشهادة.. أما إسرائيل فلا يوجد لديها سوى الميول الاستعمارية لاحتلال أراضي الغير وعقيدة كاذبة تحارب من أجلها وهي مقولتهم الشهيرة من النيل إلى الفرات.
- صف لي مشاعرك وأنت تشاهد نجاح فكرتك على أرض المعركة يوم السادس من أكتوبر؟
سرح ببصره بعيداً وكأنما يستعيد ذلك اليوم، ثم تبسم وقال: حقيقة مشاعر لا يمكن وصفها وأنا أشاهد مدافع المياه تمزق أوصال الساتر الترابي وتنهار الأسطورة المسماه بخط بارليف، وتم عبور أول لواء مدرع أرض سيناء الحبيبة في الساعة الثامنة والنصف لتدهس أقدام الأبطال رمال الساتر الترابي وتدكه جنازير الدبابات لتصنع نصراً عزيزاً غالياً طال انتظاره سنوات طوال.
- ماذا عن التكريم الذي نلته من القيادة السياسية والعسكرية؟
لم أنتظر يوما تكريماً أو تشريفاً ما فعلته طوال سنوات خدمتي بالقوات المسلحة إنما لمصر، لأبنائي ولأحفادي، وقد تم منحي نوط الجمهورية العسكري من الطبقة الأولى وذلك عن أعمال قتالية استثنائية تدل على التضحية والشجاعة الفائقة في مواجهة العدو في ميدان القتال، وقد سلمه لي الرئيس الراحل أنور السادات وكان ذلك في شهر فبراير 1974 كما منحني الرئيس حسني مبارك وسام الجمهورية من الطبقة الثانية عام 1984 بمناسبة إحالتي الى التقاعد.
خدمة وكالة الصحافة العربية